ادخل بريدك الالكتروني ليصلك الجديد!

Wednesday, April 9, 2014

ملك يموت رفسا بالاقدام

بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله النبي الكريم، و على أله و صحبه و من ولاه الى يوم الدين.
أعزائي القراء ،
أخترت لكم اليوم قصة من موقع اسلام ستوري islam story للدكتور راغب السرجاني، موضوع اكثر من رائع تناوله الدكتور بأسلوب سردي متميز يجعلك تعيش مع المصيبة التي حلت ببغداد و كأنك تعايش أيام تلك القيامة، وذلك المحشر المهول، و تلك المذبحة المريعة في حق المسلمين، و في الأخير تلك النهاية المريعة لسلطان مسلم ملك الدنيا، بأجمعها لكنه يموت رفسا بالاقدام، نعم رفسا بالأقدام.
ميتة لم يسبق أن حدثت لأي أمير أو سلطان او حاكم أو رئيس دولة على مر التاريخ على الإطلاق. كما نستفيد عبر و دروس لا تقدر بثمن و اسقاطها على الواقع المعيش لهذه الأمة لعلها تستفيق و تستيقظ لأن السكاكين فعلا بدأت تشحذ لذبح هذه الأمة، و لكنها وا أسفاه ترقص و تغني طربا لمصيرها المحتوم.  
أتتركم مع تفاصيل هذه القصة و قراءة ممتعة.
ديوان الخليفة
ديوان الخليفة

سقـــــوط بغــداد

لم ينتظر هولاكو وقتاً طويلاً.. ولم يعط لصديقه الخليفة ما يريده من الوقت للتفكير المتعمق، ولكنه قرر أن يجبره على سرعة التفكير، وذلك عن طريق بدأ إطلاق القذائف النارية والحجرية على بغداد، مستخدماً في ذلك أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الزمان.. وبدأ القصف التتري المروع لأسوار وحصون وقصور وديار بغداد، وبدأت المدينة الآمنة تُروع للمرة الأولى تقريباًً في تاريخها...
بدأ القصف التتري في الأول من صفر سنة 656هـ، واستمر أربعة أيام متصلة.. ولم تكن هناك مقاومة تذكر.

مصرع عرفة!!

يذكر ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية موقفاً "بسيطاً" لا يعلق عليه، ولكنه حمل بالنسبة لي معاني كثيرة..
يقول ابن كثير: "وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت "تلعب" بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى "عرفـــة"، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي "ترقص" بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: "إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم"، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة!!"..
وعجيب أن يذكر ابن كثير هذا الخبر دون تعليق!!..
والحدث -وإن كان ظاهره بسيطاً عابراً- إلا أنه يحمل معانٍ هائلة..
لقد تمكنت الدنيا تماماً من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة.. فها هو الخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.. نعم قد تكون الجارية ملك يمينه.. وقد تكون حلالاً له.. وإذا لم يكن هناك من يشاهدها غيره فلا حرج من أن يشاهدها الخليفة وهي ترقص.. لكن أين العقل في رأس الخليفة؟! العاصمة الإسلامية للخلافة محاصرة، والموت على بعد خطوات، والمدفعية المغولية تقصف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري!!..


أين العقل؟ وأين الحكمة؟!
أين العقل؟ وأين الحكمة؟!
أين العقل؟ وأين الحكمة؟!
       للسماء حق اذا بكت على دم لزوال      ملك المستعصم امير المؤمنين


لقد أصبح رقص الجواري في الدماء، فصار كالطعام والشراب.. لابد منه حتى في وقت الحروب.. ولا أدري حقيقة كيف كانت نفسه تقبل أن ينشغل بمثل هذه الأمور، والبلاد والشعب وهو شخصياً في مثل هذه الضائقة..
وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أطلق على دار الخلافة وقتل الراقصة المسكينة إذ قالوا: "إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم"، فالله قد قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب فعلاً عقل الخليفة وعقول أعوانه وشعبه، ولا شك أن هذه العبارات المنتقاة بدقة كانت نوعاً من الحرب النفسية المدروسة التي كان يمارسها التتار بمهارة على أهل بغداد..
ويكفي كدليل على قلة عقل الخليفة أنه بعد هذه "الكارثة" (كارثة قتل الراقصة) لم يأمر الشعب بالتجهز للقتال، فقد وصل الخطر إلى داخل دار الخلافة، وإنما أمر فقط بزيادة الاحتراز، ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية ولزيادة الوقاية وستر الراقصات!..
ولا حول ولا قوة إلا بالله..

مفاوضات النهاية

ظل التتار على قصفهم مدة أربعة أيام من أول صفر إلى الرابع منه سنة 656 هجرية، وفي يوم الرابع من صفر بدأت الأسوار الشرقية تنهار.. ومع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تماماً..
لقد بقيت لحظات قليلة جداً في العمر..
هنا لجأ الخليفة إلى صديقه الخائن مؤيد الدين العلقمي، وسأله ماذا يفعل؟ وأشار عليه الوزير أن يخرج لمقابلة هولاكو بنفسه لكي يجري معه المفاوضات..
وذهبت الرسل إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة، ولكن ليس وحده، بل عليه أن يأتي معه بكبار رجال دولته، ووزرائه، وفقهاء المدينة، وعلماء الإسلام، وأمراء الناس والأعيان، حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، وبذلك تصبح المفاوضات ـ كما يزعم هولاكو ـ ملزمة للجميع..
ولم يكن أمام الخليفة الضعيف أي رأي آخر..
وجمع الخليفة كبار قومه، وخرج بنفسه في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد.. خرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، وتلاحقت أنفاسه..
لقد خرج الخليفة ذليلاً مهيناً، وهو الذي كان يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، وكان أجداده الأقدمون يقودون الدنيا من تلك الدار التي خرج منها الخليفة الآن..
وكان الوفد كبيراً يضم سبعمائة من أكابر بغداد، وكان فيه بالطبع وزيره مؤيد الدين بن العلقمي، واقترب الوفد من خيمة هولاكو، ولكن قبل الدخول على زعيم التتار اعترض الوفد فرقة من الحرس الملكي التتري، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو، بل قالوا: إن الخليفة سيدخل ومعه سبعة عشر رجلاً فقط، أما الباقون فسيخضعون - كما يقول الحرس - للتفتيش الدقيق.. ودخل الخليفة ومعه رجاله، وحجب عنه بقية الوفد.. ولكنهم لم يخضعوا لتفتيش أو غيره.. بل أخذوا جميعاً....... للقتل!
قُتل الوفد بكامله إلا الخليفة والذين كانوا معه.. قُتل كبراء القوم، ووزراء الخلافة، وأعيان البلد، وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية..
ولم يُقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى..
وبدأ هلاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر..
واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله..
اكتشف الخليفة ما كان واضحاً لكل الخلق.. ولكنه لم يره إلا الآن.. لقد اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10].
واكتشف أيضاً أن الحق لابد له من قوة تحميه.. فإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك.. لكن -وللأسف- جاء هذا الاكتشاف متأخراً جداً..
وبدأت الأوامر الصارمة تخرج من السفاح هولاكو:
1ـ على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة .. وقد كان ذلك أمراً سهلاً؛ لأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون حمل السلاح، ولا يرغبون في ذلك أصلاً..
2ـ يقيد الخليفة المسلم، ويساق إلى المدينة يرسف في أغلاله، وذلك لكي يدل التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة، وكل ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال..
3ـ يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينه!! فقُتل الولد الأكبر "أحمد أبو العباس"، وكذلك قُتل الولد الأوسط "عبد الرحمن أبو الفضائل".. ويتم أسر الثالث مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة وخديجة ومريم..
4ـ أن يستدعى من بغداد بعض الرجال بعينهم، وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السنة، وكان ابن العلقمي يكن لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعاً، فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عينه التتار بجوار المقابر، فيذبح العالم كما تذبح الشياه، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل.!!. لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس!!
ذُبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي (العالم الإسلامي المعروف)، وذبح أولاده الثلاثة عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذُبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان شاه، واللذان قادا الدعوة إلى الجهاد في بغداد، وذُبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه "صدر الدين علي بن النيار"، ثم ذُبح بعد هؤلاء خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن!!..
كل هذا والخليفة حي يشاهد، وأنا لا أتخيل كمّ الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة، ولا شك أن أداء الخليفة في إدارته للبلاد كان سيختلف جذرياً لو أنه تخيل - ولو للحظات - أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، ولكن ليس من سنة الله U أن تعود الأيام، ثم إن الخليفة رأى أن هولاكو يتعامل تعاملاً ودياً مع ابن العلقمي الوزير الخائن، وأدرك بوضوح العلاقة بينهما، وانكشفت أمامه الحقائق بكاملها، وعلم النتائج المترتبة على توسيد الأمر لغير أهله، ولكن كل هذه الاكتشافات كانت متأخرة جداً.

تدمير بغداد!

تدمير بغداد
تدمير بغداد

وبعد أن ألقى أهل المدينة السلاح، وبعد أن قتلت هذه الصفوة، وبعد أن انساب جند هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة.. أصدر السفاح هولاكو أمره الشنيع "باستباحة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية".. والأمر بالاستباحة يعني أن الجيش التتري يفعل فيها ما يشاء.. يقتل.. يأسر.. يسبي.. يرتكب الفواحش.. يسرق.. يدمر.. يحرق.. كل ما بدا لهؤلاء الهمج أن يفعلوه فليفعلوه!!..
وانطلقت وحوش التتار الهمجية تنهش في أجساد المسلمين..
واستبيحت مدينة بغداد العظيمة..
اللهم لا حول ولا قوة إلا بك..
كم من الجيوش خرجت لتجاهد في سبيل الله من هذه المدينة!!..
كم من العلماء جلسوا يفقهون الناس في دينهم في هذه المدينة!!..
كم من طلاب العلم شدوا الرحال إلى هذه المدينة!!..
أواه يا بغداد! .. لم يبق لك أحد!..
أين خالد بن الوليد؟
أين المثنى بن حارثة؟
أين القعقاع بن عمرو؟
أين النعمان بن مقرن؟
أين سعد بن أبي وقاص؟
أين الحمية في صدور الرجال؟!
أين النخوة في أبناء المسلمين؟!
أين العزة والكرامة؟!
أين الذين يطلبون الجنة؟
أين الذين يقاتلون في سبيل الله؟
بل أين الذين يدافعون عن أعراضهم ونسائهم وأولادهم وديارهم وأموالهم؟
أين؟!!!
لا أحد!!..
لقد فتحت بغداد أبوابها على مصاريعها..
لا مقاومة.. لا حراك..
لم يبق في بغداد رجال.. ولكن فقط أشباه رجال!!..
استبيحت المدينة العظيمة بغداد..
استبيحت مدينة الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل..
استبيحت مدينة الرشيد.. الذي كان يحج عاماً ويجاهد عاماً..
استبيحت مدينة المعتصم.. فاتح عمورية ببلاد الروم..
استبيحت عاصمة الإسلام على مدار أكثر من خمسة قرون!!..
وفعل التتار في المدينة ما لا يتخيله عقل!!..
لقد بدأ التتار يتعقبون المسلمين في كل شارع أو ميدان.. في كل بيت أو حديقة.. في كل مسجد أو مكتبة.. واستحر القتل في المسلمين.. والمسلمون لا حول لهم ولا قوة، فكان المسلمون يهربون ويغلقون على أنفسهم الأبواب، فيحرق التتار الأبوب أو يقتلعونها، ويدخلون عليهم، فيهرب المسلمون إلى أسطح الديار، فيصعد وراءهم التتار، ثم يقتلونهم على الأسطح، حتى سالت الدماء بكثرة من ميازيب المدينة (والميازيب هي قنوات تجعل في سقف المنازل لينزل منها ماء المطر، ولا يتجمع فوق الأسطح)..
ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط.. إنما كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، وكانوا يقتلون النساء إلا من استحسنوه منهن؛ فإنهم كانوا يأخذونها سبياً.. بل وكانوا يقتلون الأطفال.. بل كانوا يقتلون الرضع!!..
وجد جندي من التتار أربعين طفلاً حديثي الولادة في شارع جانبي، وقد قُتلت أمهاتهم، فقتلهم جميعاً!!.
قلوب كالحجارة.. أو أشد قسوة!!..
وتزايد عدد القتلى في المدينة بشكل بشع..
ومر اليوم الأول والثاني والثالث والعاشر.. والقتل لا يتوقف.. والإبادة لا تنتهي..
ولا دفاع.. ولا مقاومة.. فقد دخل في روع الناس أن التتار لا يهزمون.. ولا يجرحون.. بل إنهم لا يموتون!!..
كل هذا والخليفة حي يشاهد.. وهذا هو العذاب بعينه..
هل تتخيلون الخليفة وهو يشاهد هذه الأحداث؟!
هل تتخيلون الخليفة ابن الخلفاء.. العظيم ابن العظماء.. وهو يقف مقيداً يشاهد كل هذه المآسي؟!
- قتل ولدان من أولاده..
- أسر ابنه الثالث..
- أسرت أخواته الثلاث..
- قتل معظم وزرائه..
- قتل كل علماء بلده وخطباء مساجده وحملة القرآن في مدينته..
- اكتشف خيانة أقرب المقربين إليه "مؤيد الدين العلقمي الشيعي.."
- دمر جيشه بكامله..
- نهبت أمواله وثرواته وكنوزه ومدخراته..
- استبيحت مدينته وقتل من شعبه مئات الآلاف أمام عينيه..
- أحرقت العاصمة العظيمة لدولته، ودمرت مبانيها الجميلة..
- انتشر التتار بوجوههم القبيحة الكافرة الكالحة في كل بقعة من بقاع بغداد.. فكانوا كالجراد الذي غطى الأرض الخضراء، فتركها قاعاً صفصفاً..
- وضعت الأغلال في عنقه وفي يده وفي قدمه.. وسيق كما يساق البعير..
لقد شاهد الخليفة كل ذلك بعينيه..
وتخيل مدى الحسرة والألم في قلبه..
لا شك أنه قال مراراً: "يا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً"..
لا شك أنه نادم {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]...
ومر على ذهنه شريط حياته في لحظات..
ولا شك أنه أخذ يراجع نفسه ولسان حاله يقول: "رب ارجعون! لعلي أعمل صالحاً فيما تركت"..
يا ليتني جهزت الجيوش وأعددتها وقويتها!!..
يا ليتني حفزت الأمة على الجهاد في وقت أحيطت فيه بأعداء الدين من كل مكان..
يا ليتني رفعت قيمة الإسلام في عيون الناس وفي قلوبهم، حتى يصبح الإسلام عندهم أغلى من أموالهم وحياتهم..
يا ليتني تركت اللهو واللعب والحفلات والتفاهات..
ليتني ما عشت لجمع المال..
ليتني ما استكثرت من الجواري.. وليتني ما سمعت المعازف..
ليتني اخترت بطانة الخير..
ليتني عظمت من العلماء وتركت الأدعياء..
ليتني.. ليتني.. ليتني....
لكن القيود الثقيلة المسلسلة في عنقه ويديه وساقيه ردته إلى أرض الواقع.. ليعلم أن الزمان لا يعود أبداً إلى الوراء..
عن عبد الله بن عمر { أن رسول الله r قال:" إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ (نوع من الربا)، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ (العمل في رعي المواشي)، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ (أي رضيتم بالاشتغال بالزراعة، والمقصود عملتم في أعمال الدنيا أياً كانت في وقت الجهاد المتعين)، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ "[1].
لقد عمل أهل بغداد في الزراعة والتجارة والكتابة والصناعة.. بل وفي العلم والتعلم.. وتركوا الجهاد في سبيل الله.. فكانت النتيجة هذا الذل الذي رأيناه..
وهذه دروس قيمة جداً إلى كل مسلم.. حاكم أو محكوم.. عالم أو متعلم.. كبير أو صغير.. رجل أو امرأة...
ـ لابد للحق من قوة تحميه..
ـ الحقوق لا تُستجدى ولكن تؤخذ.. ويُبذل في سبيلها الغالي والثمين..
ـ ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا..
ـ أعداء الأمة لا عهد لهم..

الخليفة المستعصم بالله والموت رفسًا!!..

وسيق الخليفة "المستعصم بالله" إلى خاتمته الشنيعة.. بعد أن رأى كل ذلك في عاصمته، وفي عقر دار خلافته، بل وفي عقر بيته..
أصدر السفاح هولاكو الأمر بالإجهاز على الخليفة المسكين.. ولكن أشار على هولاكو بعض أعوانه بشيء عجيب..! لقد قالوا: لو سالت دماء الخليفة المسلم على الأرض، فإن المسلمين سيطلبون ثأره بعد ذلك، ولو تقادم الزمان، ولذلك يجب قتل الخليفة بوسيلة لا تسيل فيها الدماء.. ولا داعي لاستعمال السيف..
وهذا بالطبع نوع من الدجل .. لأنه من المفترض أن يطلب المسلمون دم خليفتهم، بل ودماء المسلمين جميعاً الذين قتلهم هولاكو وجنوده بصرف النظر عن طريقة قتلهم..
لكن هولاكو استمع لهم.. وسبحان الله!!.. كأن الله U قد أراد ذلك، حتى يموت الخليفة بصورة مخزية ما حدثت مع خليفة قبله، وما سمعنا بها مع أي من ملوك أو أمراء الأرض.. مسلمين كانوا أو غير مسلمين..
لقد أمر هولاكو أن يقتل الخليفة "رفساً بالأقدام"!!!..
وبالفعل وضع الخليفة العباسي على الأرض، وبدأ التتار يرفسونه بأقدامهم..
وتخيل الرفس والركل بالأقدام إلى الموت!!..
أي ألم.. وأي إهانة.. وأي ذل!!..
لقد ظلوا يرفسونه إلى أن فارقت روحه الجسد..
وإنا لله.. وإنا إليه راجعون..
إن بغداد لم تسقط فقط!!
إنما سقط أخر خلفاء بني العباس في بغداد..
وسقط معه شعبه بكامله!..
وكان ذلك في اليوم العاشر من فتح بغداد لأبوابها.. في يوم 14 صفر سنة 656هـ..
ولم تنته المأساة بقتل الخليفة.. وإنما أمر هولاكو - لعنه الله - باستمرار عملية القتل في بغداد.. فهذه أضخم مدينة على وجه الأرض في ذلك الزمان.. ولابد أن يجعلها التتار عبرة لمن بعدها..
واستمر القتل في المدينة أربعين يوماً كاملة منذ سقوطها..
وتخيلوا كم قتل في بغداد من المسلمين؟!
لقد قتل هناك ألف ألف مسلم (مليون مسلم..!!) ما بين رجال ونساء وأطفال!!!..
ألف ألف مسلم قتلوا في أربعين يوماً فقط!!..
وتخيل أمة فقدت من أهلها مليوناً في غضون أربعين يوماً فقط..
كارثة رهيبة!..
نذكر ذلك لنعلم أن المصائب التي يلقاها المسلمون الآن -مهما اشتدت- فهي أهون من مصائب رهيبة سابقة.. وسنرى أن المسلمين سيقومون بفضل الله من هذه المصيبة.. لنعلم أننا -بإذن الله- على القيام من مصائبنا أقدر..
وللعلم فإنه لم ينج من القتل في بغداد إلا الجالية النصرانية فقط!..!
وبعد ذلك اتجه مجرمو المغول التتار إلى عمل إجرامي لا ينم إلا على حقد أكل قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين..
غزو المغول
غزو المغول لبلاد المسلمين


واذا كان لهذا الحادث الجلل تأثيره العميق في نفوس المسلمين فكيف كان وقعه في نفوس الشعراء والادباء وكان من بين تلك المراثي ما قالها تاج الدين اسماعيل، هي:

      أسائل الدمع عن بغداد اخبارا        فما وقوفك والاحباب قد ساروا
      الخلافة والربع الذي شرفت          به المعالم قد عفاه اقفارا
      اضحى لعطف البلى في ربعه اثر     وللدموع غلى الاثار آثارا

وهذه المرثية من شمس الدين الكوفي، اليك بعض ابياتها:
       يادار اين الساكنون واين              ذاك البهاء وذلك الاعظام
       يا دار اين زمان مجدك موقنا         وشعارك الاجلال والاكرام
       يا غائبين وفي الفؤاد لبعدكم           نار لها بين الضلوع ضرام
       ولقيت من صرف الزمان وجوره    مالم تخيله لي الاوهام
       ياليت شعري كيف حال احبتي        وباي ارض خيموا واقاموا

وهذا الشاعر الفارسي الشهير سعدي الذي عاصر غزو المغول لبغداد لم يستطع ان يخفي مشاعر حزنه لهول هذا المصاب فنظم قصيدة بالفارسية، هذا مطلعها بعد الترجمة:

كما نظم سعدي قصيدة باللغة العربية، هذا مطلعها:

       نسيم صبا بغداد بعد خرابها تمني       لو كانت تمر على قبري
المصدر: islam story

شارك أصدقاءك بالتعليق و الإعجاب بهذا المقـال
أنشر →
تابعنا →
شارك →

0 comments: